تُبرز الثورتان المصرية والسورية، كما يشرح الكاتب محمد ركيب أوغلو، مشهدين متجاورين في الزمن ومتنافرين في المصير. بدأت الموجة الثورية العربية عام 2011، لكنها أنجبت في مصر وسوريا مسارين مختلفين جذريًا، رغم سقوط نظامين استبداديين في البداية. يختلف الفاعلون، وتتبدل أدوات الصراع، وتتغير النهايات حسب شكل القوة التي أمسكت بزمام اللحظة.
في هذا السياق، ينشر موقع إنفورمد كومنت هذا التحليل الذي يقارن بين التجربتين، كاشفًا كيف احتوى “الدولة العميقة” في مصر المسار المدني، بينما أطاحت قوة عسكرية ناشئة في سوريا بالبنية القديمة بالكامل.
تشريح الثورة بين الميادين والسلاح
انبثقت الثورة المصرية من قلب الشارع والميادين. حرّكتها مجموعات شبابية مدنية، واعتمدت على التنظيم الشعبي والمنصات الرقمية، من دون قيادة مركزية أو جناح مسلح منظّم. دفعت الاحتجاجات المتواصلة حسني مبارك إلى التنحي، وفتحت الطريق أمام أول انتخابات ديمقراطية في 2012، وفاز محمد مرسي، مرشح جماعة الإخوان المسلمين، بالرئاسة. بدا المشهد حينها وكأنه ذروة انتصار الإرادة المدنية.
لكن تصاعد القلق داخل المؤسسة العسكرية والدوائر الليبرالية والعلمانية من سياسات مرسي ومسار حكمه. تدخل الجيش بقيادة عبد الفتاح السيسي عام 2013، وانقلب على الرئيس المنتخب، وفرض واقعًا سياسيًا جديدًا. بدأ انقلاب مضاد أعاد السلطة إلى قبضة المؤسسة العسكرية، وعُطّل المسار الثوري الذي انطلق من ميدان التحرير. أثبتت التجربة أن الثورة التي لا تفكك أدوات القمع القديمة تبقى مهددة بالارتداد عليها.
على النقيض، اتخذت الثورة السورية منحىً أكثر عنفًا منذ لحظاتها الأولى. واجه النظام في درعا الاحتجاجات السلمية بالقوة المفرطة، ودفع المعارضة إلى حمل السلاح. تشكّل الجيش السوري الحر، ثم تكاثرت الفصائل المسلحة، وتحولت البلاد إلى ساحة حرب أهلية طويلة ومعقدة. لم تُسقط حركة مدنية النظام، بل أسقطته قوة عسكرية ناشئة، تمثلت في “ائتلاف تحرير سوريا” الذي قادته هيئة تحرير الشام ومجموعات مدعومة تركيًا.
شنّ هذا الائتلاف هجومًا حاسمًا في الثامن من ديسمبر 2024، وسيطر على مدن رئيسية، ثم حاصر دمشق، فسقط النظام. تفككت هيئة تحرير الشام لاحقًا، واندُمج مقاتلوها في الجيش الوطني الجديد، وبرز أحمد الشرع رئيسًا انتقاليًا. هنا، لم تُقمع الثورة، بل تحولت إلى سلطة مؤسساتية نشأت من رحم السلاح.
تعكس أفكار ثيدا سكوكبول حول الثورات الاجتماعية هذا المشهد. تضعف الدولة تحت ضغط الحروب والأزمات الدولية، فتظهر قوة منظمة قادرة على الاستيلاء على السلطة. تحقق ذلك في سوريا بعد 13 عامًا من النزاع، بينما غاب في مصر كيان عسكري ثوري قادر على مواجهة الجيش النظامي.
رقعة الشطرنج الإقليمية
أثار صعود الإخوان المسلمين في مصر قلق السعودية والإمارات، فرأتا في حكم مرسي تهديدًا أيديولوجيًا مباشرًا. دعمتا انقلاب 2013 سياسيًا وماليًا، واعتبرتا السيسي صمام أمان ضد الفوضى والتيارات الإسلامية. وقفت تركيا وقطر إلى جانب الحكومة المنتخبة، لكن دعمهما لم يمتلك الوزن الكافي لقلب المعادلة.
في سوريا، بدت الصورة أكثر تعقيدًا وتبدّلًا. دعّمت تركيا وقطر فصائل المعارضة بشكل متزايد بعد 2015، ونفّذت أنقرة تدخلات عسكرية ضد تنظيم داعش ووحدات مرتبطة بحزب العمال الكردستاني، وخاضت مسار أستانا للحد من نفوذ روسيا وإيران. مع مرور الوقت، غيّرت السعودية والإمارات حساباتهما، وبدأتا تنظران إلى إسقاط نظام بشار الأسد، الحليف لإيران، بوصفه مكسبًا استراتيجيًا، حتى لو جاء على يد قوى مدعومة تركيًا.
تجسدت هنا سياسة المصالح الباردة بدل الاصطفافات الأيديولوجية. اختلف الموقف جذريًا عما جرى في مصر، حيث فُضّل الحفاظ على الدولة الاستبدادية على المغامرة بتغيير قد يهدد التوازن الإقليمي.
السياق الدولي وتغيّر موازين القوة
عام 2013، اكتفت الولايات المتحدة وأوروبا ببيانات خجولة عن الديمقراطية في مصر، دون خطوات عملية. فضّلت العواصم الغربية الاستقرار والتعاون الأمني على المواجهة، فحظي النظام الجديد بقبول ضمني سمح له بالترسخ.
أما سوريا، فدخلت في مرحلة دولية مختلفة. أنقذ التدخل الروسي عام 2015 نظام الأسد، لكن انشغال موسكو بالحرب في أوكرانيا منذ 2022 قلّص وجودها العسكري. نشأت فجوة استغلّتها المعارضة للهجوم النهائي. في الوقت نفسه، ركّزت واشنطن على منطقة الهندي–الهادئ، وتجنبت الغرق في مستنقع سوري جديد، فتركت مساحة مفتوحة لإعادة رسم المشهد.
سارع المجتمع الدولي إلى الاعتراف بالإدارة الجديدة في دمشق بعد ديسمبر 2024، وعادت بعثات دبلوماسية أوروبية، في إشارة واضحة إلى قبول الواقع الجديد والسعي لكبح نفوذ إيران.
في النهاية، تكشف التجربتان نموذجين متعاكسين للثورات الحديثة. حملت مصر ثورة مدنية أطاحت رأس النظام، لكنها تعثرت أمام مؤسساته العميقة. وخاضت سوريا حربًا دموية انتهت بإسقاط البنية القديمة وتأسيس سلطة جديدة من داخل المعسكر العسكري ذاته. صنعت طبيعة الفاعلين، وحسابات الإقليم، وتحولات النظام العالمي، الفارق بين سقوط مؤقت وسقوط نهائي… وبين حلم أُجهض وواقع فُرض بالقوة.
https://www.juancole.com/2025/12/divergent-egyptian-revolutions.html

